سورة الحجرات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)}
ولنذكر في تفسير هذه الآية ما قيل وما يجوز أن يقال، أما ما قيل فلنختر أحسنه وهو ما اختاره الزمخشري فإنه بحث في تفسير هذه الآية بحثاً طويلاً، فقال قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} ليس كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم، إذ لا تبقى مناسبة بين قوله: {واعلموا} وبين قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} ثم وجه التعلق هو أن قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} في تقدير حال من الضمير المرفوع في قوله: {فيكُمْ} كان التقدير كائن فيكم، أو موجود فيكم، على حال تريدون أن يطيعكم أو يفعل باستصوابكم، ولا ينبغي أن يكون في تلك الحال، لأنه لو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ} أو لوقعتم في شدة أو أولمتم به.
ثم قال تعالى: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} خطاباً مع بعض من المؤمنين غير المخاطبين بقوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} قال الزمخشري اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ولم يقل حبب إلى بعضكم الإيمان، وقال أيضاً بأن قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} دون أطاعكم يدل على أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة، ودوام النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باستصوابهم، ولكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها، وهاهنا كذلك وإن لم يكن تحصل المخالفة بتصريح اللفظ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك لأن المخاطبين أولاً بقوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} هم الذين أرادوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بمرادهم، والمخاطبين بقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} هم الذين أرادوا عملهم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم، هذا ما قاله الزمخشري واختاره وهو حسن، والذي يجوز أن يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} [الحجرات: 6] أي فتثبتوا واكشفوا قال بعده: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فيكم مبين مرشد، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ شيخ في مسألة: هذا الشيخ قاعد لا يريد بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالمراجعة إليه، وذلك لأن المراد منه أنه لا يطيعكم في كثير من الأمر، وذلك لأن الشيخ فيما ذكرنا من المثال لو كان يعتمد على قول التلاميذ لا تطمئن قلوبهم بالرجوع إليه، أما إذا كان لا يذكر إلا من النقل الصحيح، ويقرره بالدليل القوي يراجعه كل أحد، فكذلك هاهنا قال استرشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف، والذي يدل على أن المراد من قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} بيان أنه لا يطيعكم هو أن الجملة الشرطية في كثير من المواضع ترد لبيان امتناع لشرط لامتناع الجزاء كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] فإنه لبيان أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله.
ثم قال تعالى: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله: {فَتَبَيَّنُواْ} وهو أن يقع لواحد أن يقول إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان فكذلك نجتهد في أمورنا، فقال ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد، بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان، فكأنه تعالى قال: توقفوا فيما يكون مشكوكاً فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله، وعلى قولنا المخاطب بقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} هو المخاطب بقوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} إذا علمت معنى الآية جملة، فاسمعه مفصلاً ولنفصله في مسائل:
المسألة الأولى: لو قال قائل إذا كان المراد بقوله: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} الرجوع إليه والاعتماد على قوله، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز؟ نقول الفائدة زيادة التأكيد وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله راجعوا شيخكم، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقاً عليه، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده، فكأنه يقول: إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ، وأن الواجب مراجعته فإن كنتم لا تعلمون قعدوه فهو قاعد فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود كأنه يقول خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي، بخلاف ما لو قال راجعوه، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق، وبين الكلامين بون بعيد، فكذلك قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم، فاعلموا أنه فيكم فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح.
المسألة الثانية: إذا كان المراد من قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به؟ نقول بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله فإن قوله (ليس فيهما آلهة) لو قال قائل: لم قلت إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فكذلك هاهنا لو قال لا يطيعكم، وقال قائل لم لا يطيع لوجب أن يقال لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم، كما قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فإن طاعتكم لا تفيده شيئاً فلا يطيعكم، فهذا نفي الطاعة بالدليل وبين نفي الشيء بدليل ونفيه بغير دليل فرق عظيم.
المسألة الثالثة: قال: {فِى كَثِيرٍ مّنَ الأمر} ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لفائدة قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159].
المسألة الرابعة: إذا كان المراد بقوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان}، فلا تتوقفوا فلم لم يصرح به؟ قلنا لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوماً متفقاً عليه لم يقل فلا تتوقفوا بل قال حبب إليكم الإيمان، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني.
المسألة الخامسة: ما المعنى في قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} نقول قوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} أي قربه وأدخله في قلوبكم ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئاً منها إذا حصل عنده وطال لبثه والإيمان كل يوم يزداد حسناً، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل، ولهذا قال في الأول: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ} وقال ثانياً: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
المسألة السادسة: ما الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان؟ فنقول هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل لأن الإيمان الكامل المزين، هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان أحدها: قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان والفسوق هو الكذب.
وثانيها: هو ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] سمي من كذب فاسقاً فيكون الكذب فسوقاً ثالثها: ما ذكره بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى.
ورابعها: وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل: فسقت الرطبة إذا خرجت، وغير ذلك لأن الفسوق هو الخروج زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمد، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ثم قال تعالى: {والفسوق} يعني ما يظهر لسانكم أيضاً، ثم قال: {والعصيان} وهو دون الكل ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان، وقال بعض الناس الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة، والعصيان هو الصغيرة، وما ذكرناه أقوى.
ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون}.
خطاباً مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه معنى لطيف: وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أي هو مرشد لكم فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين، فقال في الأول كفى النبي مرشداً لكم ما تسترشدونه فأشفق عليهم وأرشدهم، وعلى هذا قوله: {الرشدون} أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم.


{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: نصب فضلاً لأجل أمور، إما لكونه مفعولاً له، وفيه وجهان:
أحدهما: أن العامل فيه هو الفعل الذي في قوله: {الرشدون} فإن قيل: كيف يجوز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولاً له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد؟ نقول لما كان الرشد توفيقاً من الله كان كأنه فعل الله فكأنه تعالى أرشدهم فضلاً، أي يكون متفضلاً عليهم منعماً في حقهم والوجه الثاني: هو أن العامل فيه هو قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان... وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} [الحجرات: 7] فضلاً وقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} [الحجرات: 7] جملة اعترضت بين الكلامين أو يكون العامل فعلاً مقدراً، فكأنه قال تعالى جرى ذلك فضلاً من الله، وإما لكونه مصدراً، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدراً من غير اللفظ ولأن الرشد فضل فكأنه قال أولئك هم الراشدون رشداً وثانيهما: هو أن يكون مصدراً لفعل مضمر، كأنه قال حبب إليكم الإيمان وكره إليكم الكفر فأفضل فضلاً وأنعم نعمة، والقول بكونه منصوباً على أنه مفعول مطلق وهو المصدر، أو مفعول له قول الزمخشري، وإما أن يكون فضلاً مفعولاً به، والفعل مضمراً دل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} أي يبتغون فضلاً من الله ونعمة.
المسألة الثانية: ما الفرق بين الفضل والنعمة في الآية؟ نقول فضل الله إشارة إلى ما عنده من الخير وهو مستغن عنه، والنعمة إشارة إلى ما يصل إلى العبد وهو محتاج إليه، لأن الفضل في الأصل ينبئ عن الزيادة، وعنده خزائن من الرحمة لا لحاجة إليها، ويرسل منها على عباده ما لا يبقون معه في ورطة الحاجة بوجه من الوجوه، والنعمة تنبئ عن الرأفة والرحمة وهو من جانب العبد، وفيه معنى لطيف وهو تأكيد الإعطاء، وذلك لأن المحتاج يقول للغني: أعطني ما فضل عنك وعندك، وذلك غير ملتفت إليه وأنابه قيامي وبقائي، فإذن قوله: {فَضْلاً مّنَ الله} إشارة إلى ما هو من جانب الله الغني، والنعمة إشارة إلى ما هو من جانب العبد من اندفاع الحاجة، وهذا مما يؤكد قولنا فضلاً منصوب بفعل مضمر، وهو الابتغاء والطلب.
المسألة الثالثة: ختم الآية بقوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيه مناسبات عدة منها أنه تعالى لما ذكر نبأ الفاسق، قال إن يشتبه على المؤمن كذب الفاسق فلا تعتمدوا على ترويجه عليكم الزور، فإن الله عليم، ولا تقولوا كما كان عادة المنافق لولا يعذبنا الله بما نقول، فإن الله حكيم لا يفعل إلا على وفق حكمته.
وثانيها: لما قال الله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ} [الحجرات: 7] بمعنى لا يطيعكم، بل يتبع الوحي، قال فإن الله من كونه عليماً يعلمه، ومن كونه حكيماً يأمره بما تقتضيه الحكمة فاتبعوه ثالثها: المناسبة التي بين قوله تعالى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وبين قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} أي حبب بعلمه الإيمان لأهل الإيمان، واختار له من يشاء بحكمته رابعها: وهو الأقرب، وهو أنه سبحانه وتعالى قال: {فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً} ولما كان الفضل هو ما عند الله من الخير المستغني عنه، قال تعالى هو عليم بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، قال هو حكيم ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة.


{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}
لما حذر الله المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق، أشار إلى ما يلزم منه استدراكاً لما يفوت، فقال فإن اتفق أنكم تبنون على قول من يوقع بينكم، وآل الأمر إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين، فأزيلوا ما أثبته ذلك الفاسق وأصلحوا بينهما {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التى تَبْغِى} أي الظالم يجب عليكم دفعه عنه، ثم إن الظالم إن كان هو الرعية، فالواجب على الأمير دفعهم، وإن كان هو الأمير، فالواجب على المسلمين منعه بالنصيحة فما فوقها، وشرطه أن لا يثير فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما، وفيه مسائل:


المسألة الأولى: قوله تعالى: {وإِنْ} إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، فإن قيل فنحن نرى أكثر الاقتتال بين طوائفهم؟ نقول قوله تعالى: {وإِنْ} إشارة إلى أنه ينبغي أن لا يقع إلا نادراً، غاية ما في الباب أن الأمر على خلاف ما ينبغي، وكذلك {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] إشارة إلى أن مجيء الفاسق بالنبأ ينبغي أن يقع قليلاً، مع أن مجيء الفاسق بالنبأ كثير، وقول الفاسق صار عند أولي الأمر أشد قبولاً من قول الصادق الصالح.
المسألة الثانية: قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ} ولم يقل وإن فرقتان تحقيقاً للمعنى الذي ذكرناه وهو التقليل، لأن الطائفة دون الفرقة، ولهذا قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122].
المسألة الثالثة: قال تعالى: {مِنَ المؤمنين} ولم يقل منكم، مع أن الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] تنبيهاً على قبح ذلك وتبعيداً لهم عنهم، كما يقول السيد لعبده: إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول: أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
المسألة الرابعة: قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} ولم يقل: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين، مع أن كلمة {إن} اتصالها بالفعل أولى، وذلك ليكون الابتداء بما يمنع من القتال، فيتأكد معنى النكرة المدلول عليها بكلمة {إن} وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنتين يقتضي أن لا يقع القتال منهما، فإن قيل فلم لم يقل: يا أيها الذين آمنوا إن فاسق جاءكم، أو إن أحد من الفساق جاءكم، ليكون الابتداء بما يمنعهم من الإصغاء إلى كلامه، وهو كونه فاسقاً؟ نقول المجيء بالنبأ الكاذب يورث كون الإنسان فاسقاً، أو يزداد بسببه فسقه، فالمجيء به سبب الفسق فقدمه.
وأما الاقتتال فلا يقع سبباً للإيمان أو الزيادة، فقال: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ} أي سواء كان فاسقاً أو لا أو جاءكم بالنبأ فصار فاسقاً به، ولو قال: وإن أحد من الفساق جاءكم، كان لا يتناول إلا مشهور الفسق قبل المجيء إذا جاءهم بالنبأ.


المسألة الخامسة: قال تعالى: {اقتتلوا} ولم يقل: يقتتلوا، لأن صيغة الاستقبال تنبئ عن الدوام والاستمرار، فيفهم منه أن طائفتين من المؤمنين إن تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبئ عن ذلك، يقال فلان يتهجد ويصوم.
المسألة السادسة: قال: {اقتتلوا} ولم يقل اقتتلا، وقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهم، ذلك لأن عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة، وكل أحد برأسه يكون فاعلاً فعلاً، فقال: {اقتتلوا} وعند العود إلى الصلح تتفق كلمة كل طائفة، وإلا لم يكن يتحقق الصلح فقال: {بَيْنَهُمَا} لكون الطائفتين حينئذ كنفسين.
ثم قال تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحَدَاهُمَا} إشارة إلى نادرة أخرى وهي البغي، لأنه غير متوقع، فإن قيل كيف يصح في هذا الموضع كلمة {إن} مع أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه، وبغي أحدهما عند الاقتتال لابد منه، إذ كل واحد منهما لا يكون محسناً، فقوله: {إن} تكون من قبيل قول القائل: إن طلعت الشمس، نقول فيه معنى لطيف، وهو أن الله تعالى يقول: الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع، وهو كما تظن كل طائفة أن الأخرى فيها الكفر والفساد، فالقتال واجب كما سبق في الليالي المظلمة، أو يقع لكل واحد أن القتال جائز بالاجتهاد، وهو خطأ، فقال تعالى: الاقتتال لا يقع إلا كذا، فإن بان لهما أو لأحدهما الخطأ واستمر عليه فهو نادر، وعند ذلك يكون قد بغى فقال: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} يعني بعد استبانة الأمر، وحينئذ فقوله: {فَإِن بَغَتْ} في غاية الحسن لأنه يفيد الندرة وقلة الوقوع، وفيه أيضاً مباحث الأول: قال: {فَإِن بَغَتْ} ولم يقل فإن تبغ لما ذكرنا في قوله تعالى: {اقتتلوا} ولم يقل يقتتلوا الثاني: قال: {حتى تَفِيء} إشارة إلى أن القتال ليس جزاء للباغي كحد الشرب الذي يقام وإن ترك الشرب، بل القتال إلى حد الفيئة، فإن فاءت الفئة الباغية حرم قتالهم الثالث: هذا القتال لدفع الصائل، فيندرج فيه وذلك لأنه لما كانت الفيئة من إحداهما، فإن حصلت من الأخرى لا يوجد البغي الذي لأجله حلَّ القتال الرابع: هذا دليل على أن المؤمن بالكبيرة لا يخرج عن كونه مؤمناً لأن الباغي جعله من إحدى الطائفتين وسماهما مؤمنين الخامس: قوله تعالى: {إلى أَمْرِ الله} يحتمل وجوهاً أحدها: إلى طاعة الرسول وأولي الأمر لقوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وثانيها: إلى أمر الله، أي إلى الصلح فإنه مأمور به يدل عليه قوله تعالى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، ثالثها: إلى أمر الله بالتقوى، فإن من خاف الله حق الخوف لا يبقى له عداوة إلا مع الشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6].
السادس: لو قال قائل قد ذكرتم ما يدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن القتال والبغي من المؤمن نادر، فإذن تكون الفئة متوقعة فكيف قال: {فَإِن فَاءتْ}؟ نقول قول القائل لعبده: إن مت فأنت حر، مع أن الموت لابد من وقوعه، لكن لما كان وقوعه بحيث يكون العبد محلاً للعتق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم فكذلك هاهنا لما كان الواقع فيئتهم من تلقاء أنفسهم فلما لم يقع دل على تأكيد الأخذ بينهم فقال تعالى: {فَإِن فَاءَتْ} بقتالكم إياهم بعد اشتداد الأمر والتحام الحرب فأصلحوا، وفيه معنى لطيف وهو أنه تعالى أشار إلى أن من لم يخف الله وبغى لا يكون رجوعه بقتالكم إلا جبراً السابع: قال هاهنا: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} ولم يذكر العدل في قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ} نقول لأن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه، وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر والتعذيب، والإصلاح هاهنا بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضمان المتلفات وهو حكم فقال: {بالعدل} فكأنه قال: واحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأصلحوا بالعدل مما يكون بينهما، لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة بينهما مرة أخرى الثامن: إذا قال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} فأية فائدة في قوله: {وَأَقْسِطُواْ} نقول قوله فأصلحوا بينهما بالعدل كان فيه تخصيص بحال دون حال فعمم الأمر بقوله: {وَأَقْسِطُواْ} أي في كل أمر مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله، والإقساط إزالة القسط وهو الجور والقاسط هو الجائر، والتركيب دال على كون الأمر غير مرضي من القسط والقاسط في القلب وهو أيضاً غير مرضي ولا معتد به فكذلك القسط.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6